فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا: فَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِوُجُودِ الْإِقَامَةِ، وَالْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: صَرِيحُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ فلابد مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْإِقَامَةِ.
(أَمَّا) نِيَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَمْرٌ لابد مِنْهُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ دَخَلَ مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ لِانْتِظَارِ الْقَافِلَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ.
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَفِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ كَانَ مُقِيمًا وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ (احْتَجَّ) لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَامَةَ مَتَى وُجِدَتْ حَقِيقَةً يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ الصَّلَاةُ قَلَّتْ الْإِقَامَةُ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّهَا ضِدُّ السَّفَرِ، وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بِمَا يُضَادُّهُ إلَّا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَصَرَ الصَّلَاةَ» فَتَرَكْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالنَّصِّ فَنَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَبْطُلَ السَّفَرُ بِقَلِيلِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالسَّفَرُ انْتِقَالٌ، وَالشَّيْءُ يَنْعَدِمُ بِمَا يُضَادُّهُ فَيَنْعَدِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً، إلَّا أَنَّ قَلِيلَ الْإِقَامَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ، وَالْأَرْبَعَةُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَثِيرِ أَنْ يَكُونُ جَمْعًا، وَالثَّلَاثَةُ وَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا لَكِنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ فَكَانَتْ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ مِنْ وَجْهٍ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْكَثْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَإِذَا صَارَتْ أَرْبَعَةً صَارَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِزَوَالِ مَعْنَى الْقِلَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ.
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَالْقِيَاسُ بِمُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ.
(وَأَمَّا) مُدَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَحُجَّتُهُمَا مَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ تُوجِبُ حُكْمَ الْإِقَامَةِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَأَقْصِرْ وَهَذَا بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَالَاهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ دَخَلُوا مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَمَكَثُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْيَوْمَ الْخَامِسَ وَالْيَوْمَ السَّادِسَ وَالْيَوْمَ السَّابِعَ فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ خَرَجُوا إلَى مِنًى، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» دَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْأَرْبَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى تَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِالْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَرَخَّصَ بِالْمُقَامِ ثَلَاثًا لِهَذَا لَا لِتَقْدِيرِ الْإِقَامَةِ.
(وَأَمَّا) اتِّحَادُ الْمَكَانِ: فَالشَّرْطُ نِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالِانْتِقَالُ يُضَادُّهُ ولابد مِنْ الِانْتِقَالِ فِي مَكَانَيْنِ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَوْضِعَيْنِ فَإِنْ كَانَ مِصْرًا وَاحِدًا أَوْ قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ مُسَافِرًا لَمْ يَقْصُرْ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ نِيَّةُ كَمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ فَصَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نَحْوَ مَكَّةَ وَمِنًى أَوْ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أَوْ قَرْيَتَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِصْرٌ وَالْآخَرُ قَرْيَةٌ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ يَقْصُرُ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَغَتْ نِيَّتُهُ، فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجَ بِالنَّهَارِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَإِنْ دَخَلَ أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْمُقَامَ فِيهِ بِالنَّهَارِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ دَخَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ بِاللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُقِيمًا، ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الرَّحْلِ حَيْثُ يَبِيتُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلسُّوقِيِّ أَيْنَ تَسْكُنُ؟ يَقُولُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ بِالنَّهَارِ يَكُونُ بِالسُّوقِ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ أَنَّ الْحَاجَّ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ دَخَلَ قَبْلَ أَيَّامِ الْعَشْرِ لَكِنْ بَقِيَ إلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لابد لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ نِيَّةُ إقَامَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَصِحُّ، وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ تَفَقُّهِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِطَلَبِ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ صَاحِبٍ لِي، وَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ شَهْرًا فَجَعَلْتُ أُتِمُّ الصَّلَاةَ فَلَقِيَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ تَخْرُجُ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ مِنًى بَدَا لِصَاحِبِي أَنْ يَخْرُجَ وَعَزَمْتُ عَلَى أَنْ أُصَاحِبَهُ وَجَعَلْتُ أَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لِي صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ فَمَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا لَا تَصِيرُ مُسَافِرًا فَقُلْت: أَخْطَأْتُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَدَخَلْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدٍ وَاشْتَغَلْتُ بِالْفِقْهِ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ مَبْلَغُ عِلْمِ الْفِقْهِ فَيَصِيرُ مَبْعَثُةُ لِلطَّلَبَةِ عَلَى طَلَبِهِ.
(وَأَمَّا) الْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلْإِقَامَةِ: فَهُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ وَالْقَرَارِ فِي الْعَادَةِ نَحْوُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إذَا نَزَلُوا بِخِيَامِهِمْ فِي مَوْضِعٍ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ، فَعَلَى هَذَا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كَمَا فِي الْقَرْيَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا مُقِيمِينَ فَعَلَى هَذَا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ لَا يَصِحُّ.
ذِكْرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعُيُونِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى هَذَا الْإِمَامُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْجُنْدِ وَمَعَهُمْ أَخْبِيَةٌ وَفَسَاطِيطُ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الْمَفَازَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ، وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ فِي الْأَصْلِ، فَكَانَتْ النِّيَّةُ لَغْوًا.
وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَا إذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ وَقَالَ زُفَرُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إنْ كَانَتْ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الشَّوْكَةَ إذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَقَعُ الْأَمْنُ لَهُمْ مِنْ إزْعَاجِ الْعَدُوِّ إيَّاهُمْ فَيُمْكِنَهُمْ الْقَرَارُ ظَاهِرًا، فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ صَادَفَتْ مَحَلِّهَا فَصَحَّتْ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إلَّا بِنِيَّةِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: إنَّا نُطِيلُ الثَّوَاءَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَهْلِكَ؛ وَلِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الْقَرَارِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلْقَرَارِ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَوْضِعَ قَرَارِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحَارِبِينَ لِجَوَازِ أَنْ يُزْعِجَهُمْ الْعَدُوُّ سَاعَةً فَسَاعَةً لِقُوَّةٍ تَظْهَرُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ سِجَالٌ أَوْ تَنْفُذُ لَهُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ حِيلَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ الْمُكْثِ هُنَالِكَ: فَتْحُ الْحِصْنِ دُونَ التَّوَطُّنِ، وَتَوَهُّمُ انْفِتَاحِ الْحِصْنِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ قَائِمٌ فَلَا تَتَحَقَّقُ نِيَّتُهُمْ إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا حَارَبَ أَهْلُ الْعَدْلِ الْبُغَاةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُونَ مُقِيمِينَ أَبَدًا وَإِنْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْإِقَامَةُ فِي الْمَفَاوِزِ دُونَ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، فَكَانَتْ الْمَفَاوِزُ لَهُمْ كَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَهْلِهَا وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِلرَّجُلِ أَصْلٌ وَالسَّفَرُ عَارِضٌ وَهُمْ لَا يَنْوُونَ السَّفَرَ بَلْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَاءٍ إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى حَتَّى لَوْ ارْتَحَلُوا عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَقَصَدُوا مَوْضِعًا آخَرَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ صَارُوا مُسَافِرِينَ فِي الطَّرِيقِ.
ثُمَّ الْمُسَافِرُ كَمَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا خَارِجَ الصَّلَاةِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، سَوَاءً نَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي وَسَطِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْوَقْتِ بَاقِيًا وَإِنْ قَلَّ، وَسَوَاءً كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا مَسْبُوقًا أَوْ مُدْرِكًا إلَّا إذَا أَحْدَثَ الْمُدْرِكُ أَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَوَضَّأَ أَوْ انْتَبَهَ بَعْدَ مَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالصَّلَاةُ لَا تُنَافِي نِيَّةَ الِاسْتِقْرَارِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِيهَا فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا وَالْفَرْضُ لَمْ يُؤَدَّ بَعْدُ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَيَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْمُغَيَّرِ وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ أُدِّيَ الْفَرْضُ لَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَلَا يَعْمَلُ الْمُغَيَّرُ فِيهِ، وَالْمُدْرِكُ الَّذِي نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ أَحْدَثَ وَذَهَبَ لِلْوُضُوءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ الْفَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فِي حَقِّهِ فَكَذَا فِي حَقِّ اللَّاحِقِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي الْوَقْتِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْوَقْتِ قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ.
وَكَذَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَمْ يُسَلِّمْ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمَكْتُوبَةِ بَعْدُ إلَّا أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْلٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ اسْتَحْكَمَ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ وَلَكِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِتَكُونَ الرَّكْعَتَانِ لَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَتْرَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ أَفْسَدَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ فَفَرْضُهُ تَامٌّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَظْنُونِ، هَذَا إذَا قَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ عَادَ إلَى الْقَعْدَةِ وَإِنْ أَقَامَ صُلْبَهُ لَا يَعُودُ، كَالْمُقِيمِ إذَا أَقَامَ مِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ، وَهُوَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ بِالْخِيَارِ.
وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حَتَّى نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا قَدْ فَسَدَتْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ تَمَّ شُرُوعُهُ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْ بِتَمَامِ فِعْلِ النَّفْلِ، وَتَمَامُ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ، وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً بِدُونِهِ، وَإِذَا صَارَ شَارِعًا فِي النَّفْلِ صَارَ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةً لَكِنْ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الْأَرْجَحُ لَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ارْتَفَعَتْ التَّحْرِيمَةُ بِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهُ تَطَوُّعًا مُسَافِرٌ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَقْرَأُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ، وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الرَّكْعَتَانِ لَهُ تَطَوُّعًا عَلَى قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ظُهْرَ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ، ثُمَّ الْفَجْرُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ، فَكَذَا الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي رَفْعِ صِفَةِ الْفَسَادِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُفْسِدَ لَمْ يَتَقَرَّرْ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ خُلُوُّ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِغَرَضِ أَنْ يَلْحَقَهَا مُدَّةُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ الْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ إذْ لَيْسَ لَهَا هَذِهِ الْعَرَضِيَّةُ، وَكَذَا إذَا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ لَمْ يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَسَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِسَهْوِهِ أَوْ سَجَدَهُمَا ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ: أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خُرُوجًا مَوْقُوفًا، إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَخْرُجْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خَرَجَ حَتَّى لَوْ ضَحِكَ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ سَلَامُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَصْلًا حَتَّى لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا شُرِعَتَا لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَإِنَّمَا يَنْجَبِرَانِ لَوْ حَصَلَتَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مَا يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هَذَا السَّلَامِ فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً، فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلِّلًا فِي الشَّرْعِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَالتَّحْلِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ فِي التَّحْرِيمَةِ لِيُلْحِقَ الْجَابِرَ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ بِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيَنْجَبِرَ النُّقْصَانُ فَبَقَّيْنَا التَّحْرِيمَةَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لَهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إبْقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ، فَعَمَلَ السَّلَامُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِ التَّحْرِيمَةِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هاهنا وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ كَمَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هاهنا وَالتَّحْرِيمَةُ مُنْقَطِعَةٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهَا مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَالْعَوْدُ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ هاهنا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ فَرْضَهُ صَارَ أَرْبَعًا وَهَذَا وَسَطُ الصَّلَاةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا آخِرُ الصَّلَاةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّوَقُّفِ هَاهُنَا، فَلَا يَتَوَقَّفُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَوْقُوفٌ، إنْ اشْتَغَلَ بِالسَّجْدَتَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ هُنَاكَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ صَحِيحٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي لِلضَّرُورَةِ وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ أَوْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ جَمِيعًا حَيْثُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا لِحُصُولِهِمَا فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَحَّ اشْتِغَالُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً فَوُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، وَإِذَا تَغَيَّرَ أَرْبَعًا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّجْدَةَ حَصَلَتْ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَيَبْطُلُ اعْتِبَارُهَا وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَنَّهَا مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً مُعْتَدًّا بِهَا حِينَ حَصَلَتْ بَلْ بَطَلَ اعْتِبَارُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتَ حُصُولِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ.
فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَبِخِلَافِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا ثُمَّ انْفَسَخَ بِمَعْنًى يُوجِبُ انْفِسَاخَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْعِقَادِهِ وَانْتَفَى بَعْدَ انْفِسَاخِهِ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ أَصْلًا نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَتَّى انْفَسَخَ الْبَيْعُ لَا تَبْطُلُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ الَّذِي كَانَ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ كَانَ حُرًّا ظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ مَا كَانَ مُنْعَقِدًا، وَفِي بَابِ الْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ، فَكَذَا هاهنا وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا قَبْلَ السَّلَامِ فَفِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْلَى، فَيُعَادُ لِتَحْقِيقِ مَا شُرِعَ لَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ بِيَقِينٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا تَوَقُّفَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا بَلْ يَخْرُجُ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يَعُودُ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ، وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَبُطْلَانِهَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ تُوجَدْ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.
(وَالثَّانِي) وُجُودُ الْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ مُقِيمًا فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ، كَالْعَبْدِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ مَوْلَاهُ، وَالْمَرْأَةِ بِإِقَامَةِ زَوْجِهَا، وَالْجَيْشِ بِإِقَامَةِ الْأَمِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبَعِ ثَبَتَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا تُرَاعَى لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا وَأَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ.
(وَأَمَّا) الْغَرِيمُ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ: فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السَّفَرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مَلِيًّا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَلَا يَصِيرُ تَبَعًا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ مُلَازَمَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَ الدَّيْنِ، فَكَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ إنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ وَتَنْقَلِبُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا إذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى التَّبَعُ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ فِي اللُّزُومِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ ضَرَرًا فِي حَقِّهِ وَحَرَجًا، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَيْضًا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَنْقَلِبُ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَصَاعِدًا يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَإِنْ أَدْرَكَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَنْقَلِبُ بِأَنْ اقْتَدَى بِهِ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَالْأَدَاءُ أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إلَى الْكَمَالِ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْوَقْتِ؟ وَقَدْ وُجِدَ هاهنا دَلِيلُ التَّغْيِيرِ وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ، فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَصَارَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِعَدَمِ دَلِيلِ التَّغْيِيرِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ بِالِاقْتِدَاءِ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَوْ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ كَانَ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا، وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فَوُجُودُ الْمُغَيِّرِ فِي جُزْئِهَا كَوُجُودِهِ فِي كُلِّهَا، وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ فَلَمَّا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ جَاءَ مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ صَلَّاهُمَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
(وَأَمَّا) اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَكَذَا فِي بَعْضِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ الْمُسَافِرِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُقِيمِينَ خَلْفَهُ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمُقْتَدِي فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ إذَا كَانَ مُدْرِكًا أَيْ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَفْعٌ أَخِيرٌ فِي حَقِّهِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ إلَى الْعَكْسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِالْمُنْفَرِدِ فِي حَقِّ السَّهْوِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ الْمُقِيمُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا، وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ مِنْهُمْ تَامَّةٌ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِانْفِرَادُ، وَلَوْ قَامَ الْمُقِيمُ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُقَيِّدْ هَذَا الْمُقِيمُ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ إمَامَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَرْفُضْ وَسَجَدَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ صَارَتْ أَرْبَعًا تَبَعًا لِإِمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ النَّفْلِ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَلَوْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَلَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ حَتَّى لَوْ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ الْإِمَامَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.
وَعَلَى هَذَا إذَا اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَبْطُلُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَصَارَ تَبَعًا لَهُ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُقِيمِينَ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الرَّكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَهَذَا قَدْ صَارَ مُقِيمًا، وَصَلَاةُ الْمُقِيمِ لَا تَصِيرُ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا إذَا صَارَ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ انْتَبَهَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ يُصَلِّي مَا نَامَ عَنْهُ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَقَدْ انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَالتَّبَعِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُقْتَدِيًا بِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فِي الْوَقْتِ فَأَحْدَثَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ الْمُقِيمِينَ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ.
وَلَا تَنْقَلِبُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ أَرْبَعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُمْ صَارُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُقِيمِ حَتَّى تُعَلَّقَ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ صِحَّةً وَفَسَادًا، وَالْمُسَافِرُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِهِ ابْتِدَاءً؛ وَلِأَنَّ فَرْضَهُمْ لَوْ لَمْ يَنْقَلِبْ أَرْبَعًا لَمَا جَازَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فِي حَقِّ الْإِمَامِ نَفْلٌ وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِينَ فَرْضٌ فَيَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمُقِيمَ إنَّمَا صَارَ إمَامًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي مِقْدَارِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، إذْ الْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُسَافِرِ مَعْنًى فَلِذَلِكَ لَا تَنْقَلِبُ صَلَاتُهُمْ أَرْبَعًا وَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى عَلَيْهِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُسَافِرِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قُدِّمَ مُسَافِرٌ فَنَوَى الْمُقَدَّمُ الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَيَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَا يُسَلِّمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بَقِيَ عَلَيْهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالسَّلَامِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ رَجُلًا مِنْ الْمُسَافِرِينَ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ وَبَقِيَّةُ الْمُقِيمِينَ وَيُصَلُّونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وُحْدَانًا؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ.
وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ مِنْهُمْ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الِانْفِرَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صَلَّى بِمُسَافِرِينَ رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ هاهنا أَصْلٌ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فَتَتَغَيَّرُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسَافِرِينَ خَلْفَهُ أَوْ قَامَ فَذَهَبَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَرْبَعًا لِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ فِي مَحِلِّهِ، وَصَلَاةُ مَنْ تَكَلَّمَ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ لَوْ تَكَلَّمَ فِيهِ إمَامُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَكَذَا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ مَا نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا تَبَعًا لِلْإِمَامِ فَحَصَلَ كَلَامُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ فَسَادُهَا وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا تَبَعًا.
وَقَدْ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ فَعَادَ حُكْمُ الْمُسَافِرِينَ فِي حَقِّهِ.
(وَأَمَّا) الثَّالِثُ: فَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْوَطَنِ، فَالْمُسَافِرُ إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا، سَوَاءٌ دَخَلَهَا لِلْإِقَامَةِ أَوْ لِلِاجْتِيَازِ أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، وَالْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ».
وَلِأَنَّ مِصْرَهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَإِذَا قَرُبَ مِنْ مِصْرِهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنْ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِلْمُسَافِرِ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ يَصِيرُ مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْكَافِرَ إذَا خَرَجَا إلَى السَّفَرِ فَبَقِيَ إلَى مَقْصِدِهِمَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ- فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرَ الَّذِي أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ السَّفَرِ صَحِيحٌ مِنْ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي لِكُفْرِهِ فَإِذَا أَسْلَمَ زَالَ الْمَانِعُ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ: فَقَصْدُهُ السَّفَرَ لَمْ يَصِحَّ، وَحِينَ أَدْرَكَ لَمْ يَبْقَ إلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ابْتِدَاءً.
وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَلَمَّا انْتَهَى قَرِيبًا مِنْ مِصْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَدَخَلَ الْمِصْرَ لِيَتَوَضَّأَ- إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَحِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ صَارَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا وَهُوَ مُدْرِكٌ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَاللَّاحِقُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ مُقِيمًا، فَكَذَا إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ حِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ إقَامَتِهِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا بِالدُّخُولِ إلَى مِصْرِهِ، وَكَذَا بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتَ بَاقٍ، فَكَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلتَّغْيِيرِ، أَرْبَعًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا إنْ اُعْتُبِرَ بِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْمَسْبُوقِ يَتَغَيَّرْ.
(وَلَنَا) أَنَّ اللَّاحِقَ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ؟ وَلَكِنَّهُ قَاضٍ مِثْلَ مَا انْعَقَدَ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَبِفَرَاغِ الْإِمَامِ فَاتَ الْأَدَاءُ مَعَهُ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَالْقَضَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلَفٌ فَيُعْتَبَرُ بِحَالِ الْأَصْلِ وَهُوَ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَقَدْ خَرَجَ الْأَصْلُ عَنْ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ وَصَارَ مُقِيمًا عَلَى وَظِيفَةِ الْمُسَافِرِينَ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْخَلَفُ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ الْأَدَاءُ مَعَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَصِرْ قَضَاءً فَيَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ، وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ مَا سُبِقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَهُ مَعَ الْإِمَامِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَتَغَيَّرَ ثُمَّ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ مِصْرَهُ إذَا دَخَلَهُ فِي الْوَقْتِ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ فَرْضُ السَّفَرِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالدُّخُولِ فِي الْمِصْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَبِالْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.